نعم، ربما أعانت الشياطين أصحاب تلك الطرق مع تمكّنها من معرفة الحوادث الأرضية كما مرّ، فيكثر صدقُهم، وعلى كلٍّ فإنَّ شيئًا من ذلك لا يحصّل العلم، والله أعلم.
ومما يدخل في هذا الباب ما يُؤثَر عن أهل الرياضات كالإشراقيين من الفلاسفة، والبراهمة في الهند، وبعض المتصوّفة من المسلمين ونحوهم، وذلك أنهم يعالجون أنفسهم بالجوع والسهر والبعد عن الناس، وغير ذلك، فيزعمون أنه يبلغ بهم ذلك مراتب؛ أدناها: سرعةُ الفهم للأشياء الغامضة ونحو ذلك، وأعلاها عند الإشراقيين ــ من (١) أدناها عند المتصوّفة ــ: تَمَكُّنُ أرواحِهم مِن الاطّلاع على بعض الحوادث الكونية، كما يُحكى أن الإشراقيين من أصحاب أفلاطون كانوا يقفون بمكان بعيدٍ عن مكانه ثم يتلقُّون منه الحكمة بخواطرهم، ومثل هذا كثير من حكايات المتصوّفة.
والذي أراه في هذا: أنه إن كان مع نومهم فهو نوعٌ من الرؤيا، غايةُ الأمر أنهم لما كانت أنفسهم متعلّقة بمعرفة الحكمة كلَّ التعلُّق صارت تحدِّثهم في النوم بما هي مشغولة به، فربما توصّلت بذلك إلى تسلسل النظر ومعرفة بعض الحقائق. ومثل هذا يقع لكثير من الناس، وما مِنّا أحدٌ إلا وقد يجد نحو ذلك من نفسه في بعض الأحيان، فإني أيّام تعلُّقي بقرض الشعر كنت كثيرًا ما أرى في النوم أني نظمتُ البيتَ أو البيتين أو الثلاثة فصاعدًا، وربما أسْتَيقظُ وأنا ذاكر لذلك. وأيام تعلُّقي بتأليف هذه الرسالة كثيرًا ما أرى في النوم أني أنظر في بعض مسائلها وأراجع الكتب وغير ذلك.