للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دليل مُقلَّده فهو معذور مأجور، وإن تبيَّن له بطلان دليل مُقلَّده وأصرَّ على تقليده فهو هالك، وإن لم يعلم دليل مُقلَّده أصلًا، أو عَلِمَه ولم يتبيَّن له أصحيح هو أم باطل فهو معذور، ولكن إذا علم بأنَّ بعض المجتهدين يُخالِف إمامه في ذلك فعليه أن ينظر في أدلَّتهم ــ إن تيسَّر له ــ ثم يقلِّد من ظَهَر له رُجْحَانُ دليله، فإن لم يتيسَّر له ذلك فقد قال جماعة من العلماء: يلزمه الاحتياط، وقال بعضهم غير ذلك.

والذي تقتضيه الأدلَّة أنَّ عليه الاحتياط، وفي "الصحيح" (١): "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدِينِه وعِرْضه ... " الحديث. والمختلف فيه مشتبه.

اللَّهم إلَّا أن يشقَّ عليه الاحتياط مشقَّة شديدة فقد يقال له حينئذٍ أن يأخذ بالأخف؛ لقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨]. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥].

الضَّرْب الثاني: من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وإنَّما يتعاطى النَّظَر في الأدلَّة، ويحكم بما يظهر له بدون استنادٍ إلى موافقة مجتهدٍ من المجتهدين فهذا ضالٌّ مُضِلٌّ، وهو من الرُّؤساء الجُهَّال الذين وَرَد فيهم الحديث (٢).


(١) البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، ولفظ المؤلف أحد ألفاظ مسلم.
(٢) يعني: ما أخرجه البخاري (١٠٠) ومسلم (٢٦٧٣)، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ النَّاس رؤوسًا جهالًا فسُئِلُوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا".
تنبيهٌ: قوله: "لم يُبقِ عالمًا" وصحَّت الرواية بلفظ: "حتى إذا لم يبقَ عالمٌ".
وقوله: "رُؤُوسًا" جمع "رأس"، ولفظ المؤلِّف: "رُؤَسَاء" جمع "رئيس" هي روايةُ أبي ذرٍّ للصَّحيح، وهي رواية ابن حبَّان في "صحيحه" (٤٥٧١). ويُنْظَر فيما تقدَّم: "الفتح" لابن حجر (١/ ١٩٥).