مما عُلِم من الدين بالضرورة، وشهدت به الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة أن من المحال الممتنع أن يقع كذبٌ من رب العالمين. وكيف يُتصوَّر وقوعه منه، وهو عالم الغيب والشهادة، القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله؟ وإنما تخبَّط في ذلك متأخرو الأشعرية. وكأن المُوقِعَ لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلةُ في مسألة القدر. [٢/ ٢٤٦] والخوضُ في القدر أمُّ كلِّ بلية، ولأمرٍ ما ورد في الشرع النهيُ عن ذلك، وشدَّد فيه السلف.
وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم قال لهم المعتزلة: كيف يُجبِر الله تعالى خلقه على الكفر والفجور ثم يعاقبهم عليه، وهذا قبيح ومفسدة، والله تعالى منزَّه عن القبائح، وأفعاله مبنية على المصالح. فاضطرب الأشعرية في هذا، ثم لم يجدوا محيصًا إلا أن يجحدوا هذين الأصلين، فقالوا: الأفعال كلها سواء عند العقل لا يُدرِك منها حُسنًا ولا قبحًا، والله عز وجل لا يفعل لشيء، ولا لأجل شيء، إنما يفعل ما يريده، وإرادته لا تُعلَّل بشيء البتة. فقال المعتزلة: فيلزمكم أن يجوز عقلًا أن يكذب الله تعالى، فحاول بعض الأشعرية التملُّصَ من هذا الإلزام بوجهين:
الأول: أن الكذب نقص، والله سبحانه منزَّه عن النقص.
الثاني: أنه لو جاز لكان قديمًا، وما ثبت قِدَمُه استحال عَدَمُه، فيمتنع الصدق.