أقول: مدار التشديد في هذا على الحديث الصحيح: «مَنْ حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»(١). ومَن تدبَّر علم أنه إنما يكون كاذبًا على أحد وجهين:
الأول: أن يرسل ذاك الحديث جازمًا كأن يقول: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ».
الثاني: أن يكون ظاهر حاله في تحديثه أن ذاك الخبر عنده صدق، أو محتمل أن يكون صدقًا، فيكون موهمًا خلاف الواقع، فيكون بالنظر إلى ذاك الإيهام كاذبًا. وقد عَلِمنا أن قول مَن صَحِب أنسًا:«قال أنس ... » موهم بل مفهم إفهامًا تقوم به الحجة أنه سمع ذلك من أنس، إلا أن يكون مدلّسًا معروفًا بالتدليس. فإذا كان معروفًا بالتدليس فقال فيما لم يسمعه من أنس:«قال أنس ... » لم يكن كاذبًا ولا مجروحًا، وإنما يلام على شرَهِه ويُذْكَر بعادته لتُعْرَف، فلا تُحمل على عادة غيره. وذلك أنه لما عُرِف بالتدليس لم يكن ظاهر حاله أنه لا يقول:[١/ ١١٥]«قال أنس ... » إلا فيما سمعه من أنس، وبذلك زال الإفهام والإيهام، فزال الكذب. فهكذا وأولى منه مَنْ عُرِف بأنه لحرصه على الجمع والإكثار والإغراب وعلوِّ الإسناد يروي ما سمعه من أخبار وإن كان باطلًا ولا يبيِّن، فإنه إذا عُرِف بذلك لم يكن ظاهر حاله أنه لا يحدِّث غير مبيِّن إلا بما هو عنده صدق، أو محتمل للصدق. فزال الإيهام، فزال الكذب، فلا يجرح ولكن يلام على شَرَهِه ويُذْكَر بعادته لتُعرف. وكما
(١) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، وأحمد (٢٠١٦٣)، وابن ماجه (٣٩)، وابن حبان (٢٩) من حديث سمرة بن جندب، وله شاهد من حديث المغيرة بن شعبة أخرجه أحمد (١٨٣٦٨)، ومسلم في المقدمة، والترمذي (٢٦٦٢). ومن حديث علي رضي الله عنه أخرجه ابن ماجه (٣٨)، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (٩٠٣).