للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيع على أن يبقَيا مجتمعَين ساعة، ثم إذا تعاقدا زال سبب الاجتماع فيتفرقان بأبدانهما، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق، فقد يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك. لكن قد يقال: ليس التعاقد سببًا مباشرًا، ومثله في ذلك عدم الاتفاق على الثمن، فإنهما إذا يئسا من الاتفاق زال سبب الاجتماع. ثم إن ساغ ذاك الإطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا مُلجِئَ إليه. بل الحديث نص صريح في قولنا، ففي "الصحيحين" (١) من [٢/ ٥٥] حديث الإمام الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا ... وإن تفرَّقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع".

قوله: "بل التفرق بالأبدان من شأنه إفساد العقود ... ".

أقول: فساد العقد في هذه المسائل ليس للتفرق من حيث هو تفرُّق، بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق، وهي صيرورته ربًا في الأولى، وبيعَ دَينٍ بدين في الأُخريين. وتفرُّقُ المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلًا لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه، بل يحصل به ما يُثبت العقدَ ويؤكِّده، وهو تبيُّنُ صحةِ التراضي المشروط في كتاب الله عز وجل، واستحكامه كما تقدم إيضاحه. وكثيرًا ما يُناط بالأمر الواحد حكمان مختلفان من جهتين مختلفتين، كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح إذا كان الآخر كافرًا، ويُثبِته إذا أسلم الآخر أيضًا، أو كان قد أسلم قبل ذلك على خلاف؛ وكإسلام المرأة الأيِّم يُحِلُّ نكاحَها للمسلم ويُحرِّمه للكافر، ويمنع إرثها من أقاربها الكفار، ويُثبِته لها من أقاربها المسلمين. وأمثال ذلك لا تحصى.


(١) البخاري (٢١١٢) ومسلم (١٥٣١/ ٤٤).