وأما المأخذ الخَلَفي الثاني، وهو الكَشْف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف اسمًا ولا رسمًا، خلا أنه كان منهم أفراد صادقو الحبِّ لله تعالى والخشيةِ له، يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة. فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته به على ما يقلُّ في العادة، ويُلَقَّى الحكمةَ في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير. وإذا كان من أهل العلم ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة، فقد يفهم من الآية أو الحديث معنىً صحيحًا، إذا سمعه العلماء وتدبروا وجدوه حقًّا، ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبَّههم ذلك العبد الصالح.
ثم جاء القرن الثاني، فتوغَّل أفرادٌ في العبادة والعُزْلة، وكثرة الصوم والسهر، وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحالُ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوقعوا في طرف من الرياضة، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية كالإخبار بأن فلانًا الغائب قد مات أو سيقدم وقت كذا، وأن فلانًا يُضمِر في نفسه كذا، وما أشبه ذلك من الجزئيات القريبة، فكان الناس يظنون أن جميع [٢/ ٢٣٩] ذلك من الكرامات. والواقع أن كثيرًا منه كان من آثار الرياضة، وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كان في طبعه استعداد، وتَعانَى الرياضة بشروطها، سواء أكان مسلمًا ــ صالحًا أو فاجرًا ــ أم كافرًا، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخلَ فيها لقوى النفس. فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطانُ مسلكًا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من