قلت: قد يكون بقيَّة من بقايا ما أدركته قبل تقييدها في الجسد، إن قلنا: إن النفوس خُلِقت أو تُخْلَق قبل الأجساد بزمان طويل، وأن من شأنها إذا قُيِّدت بالجسد أن تنسى أو ينسيها الله عز وجل ما كان لها قبل ذلك.
وعلى هذا فبقيَتْ لها هذه البقية؛ لأنها أظهر ما أدركته قبل تقيُّدِها بالجسد، ولأن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت إبقاء ذاك القَدْر لها؛ ليكون كالأساس لما أراده سبحانه من تكليفها في الحياة الدنيا.
وقد يقال: إن للنفوس ذاتها إدراكًا ما غير ما تدركه بالحواس والقياس العادي.
ومن تتبع أحوال نفسه وجد لها شيئًا من ذلك، فقد يعرض له ضيق وغمّ لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه في ذلك الوقت جرى ما من شأنه أن يغمه، وقد يعرض له فرح وانبساط لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه جرى في ذلك الوقت ما من شأنه أن يسره.
وقد يقال: إن ذلك من آثار ملاحظتها لدلالة الأثر على المؤثر، أو غيره من الأدلة الآتية، فإننا نجد النفس قد تلاحظ بعض الدلائل ملاحظةً لا يشعر بها العقل، كأن يرى إنسانًا فتميل إليه، وآخر فتنفر (١) عنه، ولا تعرف سببًا لذلك. ويكون السبب أن الأول يشبه في صورته وشكله وهيئته وغير ذلك إنسانًا آخر تحبه، والثاني يشبه آخر تبغضه، وإذا أمعنت النظر عرفت ذلك،
(١) هذا الفعل والذي قبله "فتميل" نقطها المؤلف بالياء والتاء معًا "فيميل ... فينفر".