الحمد لله الذي بسَطَ للعالمين فِراشَ نِعَمه، وضرَبَ عليهم رِواقَ فضلِه وكرمِه؛ فهم يتقلَّبون على مِهادِ نَعمائه، ويتفيَّؤون ظلالَ جوده وآلائه. شرَعَ لهم الدينَ ونهَجَه، وأبلَغَ إليهم براهينَه وحُجَجَه. وبيَّن لهم الطريقين، وأعلَمَهم مصيرَ الفريقَين، لِيَعلَم مَن يُؤْثر الحياةَ الدُّنيا، ممَّن يطيعه بحبِّ الأخرى؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. أحمدُه جلَّ ذكرُه وأشكرُه، وأتوب إليه تبارك اسمُه وأستغفرُه.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسلَه على حين فترةٍ من الرسل، وانتشارٍ من الأهواء والنِّحَل؛ والجاهليةُ في عنفوانها وطفوحِ طوفانها، والعصبيةُ في رَيعانها واضطرام نِيرانها، والعربُ عاكفةٌ على أوثانها، مطلِقةٌ لعِنانها بيد شيطانها، والأممُ مُجْمِعةٌ على الضلالة، متنافسةٌ في الجهالة.
فلم يزل - صلى الله عليه وآله وسلم - يدعو إلى الله سِرًّا وجهارًا، ويبلِّغ الرسالةَ ليلًا ونهارًا، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده، مؤدِّيًا رسالتَه إلى عباده. فقامت أقاربُه تُحارِبُه، وبنو عمِّه تُغالِبُه، وبالعداوة تُناصِبُه، حتى تقشَّعتْ من الجهل سحائبُه، وانجلتْ من الكفر غياهبُه، ودرستْ من الغيِّ مذاهبُه، وتفرَّقتْ عصائبُه، وتمزَّقتْ مواكبُه، وخمدتْ نوائبُه.
وقامت دعوة الحقِّ، وسطعت أنوارُها في الغرب والشَّرق، وسرَتْ