قال:(ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قلَّ، وعدم تعنِّيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه).
أقول: لزم أبو حنيفة حمّادَ بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقِلَّة الأحاديث المروية عنه لا تدلُّ على قلَّة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدَّ للرواية. وقد قَدَّمْنا أن العالم لا يُكَلَّفُ جمع السُّنَّة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب= كان له أن يُفْتِي، وإذا عَرَضَت قضية لم يجدها في الكتاب والسُّنَّة سأل مَنْ عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حَلْقته جماعة من المكثرين في الحديث، كمِسْعَر وحبّان ومِنْدَل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدَّع هو العصمةَ لنفسِه ولا ادَّعاها له أحد، وقد خالفه كبارُ أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومَنْ قَرُب منه يُنفِّرون عنه وعن بعض أقواله.
فإنْ فُرِضَ أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجَّة بيِّنة فليس معنى ذلك أنه زَعَم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أنَّ القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف (١)، ومن ثَمَّ ذَكَر أصحابه أنّ مِن أصله تقديم الحديث الضعيف ــ بَلْهَ الصحيح ــ على القياس.
(١) وذكر ابن القيم في «إعلام الموقعين» [٢: ٥٥ ــ ٥٨] مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك لغيره. [المؤلف].