فإن قيل: حاصل هذا أنهم كانوا يعتمدون النظر العقلي، وعلى هذا فما أثبته العقلُ فهو حقٌّ لا ريب فيه، وإذا كان حقًّا فلن يكون الكتاب والسنة مخالفين له، ولن تكون عقيدة السلف إلا موافقة له؛ لأنهم خير الأمة وأفضلها وأعلمها بالحق وأولاها به.
قلتُ: قد مرَّ في الباب الأول أنَّ كلمة «العقل» وقع فيها التدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي أعدَّه الله تعالى لِيُبنَى عليه الشرع والتكليف، وهو الذي كان حاصلًا للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسلَه وأنزل فيها كتبَه، وهو الذي كان حاصلًا للصحابة ومَن بعدهم من السلف. فهذا هو الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعًا فهو حقٌّ. ودون ذلك نظرٌ متعمَّق فيه، مبنيٌّ على تدقيق وتخرُّص ومقاييسَ يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه، ويكثر الخطأ واللغط، ويطول النزاع والمناقضة والمعارضة، على ما أوضحناه في الباب الأول. فهذا هو الذي اعتمده أشياخكم مع اعترافهم بوَهْنِه، ولذلك رجع بعض أكابرهم عنه كما سلف.
فإن قالوا: وكيف يجوز أن يعتمد أولئك الأجلَّة على ما لا يسوغ الاعتماد عليه؟
قلت: لم يكونوا معصومين، وقد اختلفوا، وخالفهم مَن هو مثلُهم وأعرَفُ منهم بالنظر، وبحسبكم أن أكابرهم رجعوا في أواخر أعمارهم، كما مرَّ.
هذا، وما منَّا إلا مَن يعتزُّ بآبائه وأشياخه، ويعِزُّ عليه أن يتبين أنهم كانوا على باطل؛ ولكن أقلُّ ما يجب علينا أن نعلم أن آباءنا وأشياخنا لم يكونوا معصومين. وهَبْ أنه يبعد عندنا جدًّا أن يكونوا تعمَّدوا الباطل، فما الذي يُبعِد