من عندهم، بل ولم يعتبروا أصلًا لم يُسبَقُوا إلى اعتباره، ولو فعلوا ذلك ــ وحاشاهم ــ لكانوا من شِرار خَلْق الله تعالى. بل ولا يُحْوِج تأصيلُ تلك الأصول إلى استقراء، لأن لها دلائلَ خاصَّةً تدلُّ عليها، بخلاف الأصول اللغوية.
مثاله: كون الحال منصوبًا بشرائط، فإن أئمة النحو إنما عرفوا ذلك باستقراء كلام العرب، وبعد الاستقراء جعلوا له هذا الضابط، وصار الناس بعدهم لا يتوصلون إلى معرفة اللغة إلّا بواسطة تلك الضوابط.
بخلاف أصول الفقه، فإن منها ما هو مبني على العقل كالمجمل والمبيَّن، والعقل لا يحتاج إلى استقراء.
ومنها ما هو مبني على اللغة، وهو لا يحتاج إلى استقراء، بل مَن عرفَ اللغة عرفَه، ومعرفة اللغة تحصُلُ بدون معرفة كلام الأئمة في أصول الفقه.
فمن عرف علومَ اللغة عرفَ أن صيغة "افْعَلْ" أصلها للطلب الجازم، وتجيء لغيره بقرينةٍ عليه، وأن نحو {لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء: ٢٣] يدلُّ على النهي عن الضرب بالأولى، ونحو "في الغنم السائمة زكاةٌ"(١) يدلُّ على أن غير السائمة لا شيء فيها. وتعلُّم اللغة هذه الأزمان ليس موقوفًا على تعلُّم ما قرَّره الأئمة في أصول الفقه، بل على أصول علوم اللغة التي أصَّلَها غيرُهم.
ومنها ما هو مبني على الشرع، وهذا لا يحتاج إلى استقراء، بل عليه
(١) في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة: "في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة ... ". أخرجه أبو داود (١٥٦٧) وغيره. ونحوه في كتاب أبي بكر الصديق لأنس، كما رواه البخاري (١٤٥٤).