للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد قيل: إن المراد بالمجتهد المستقل المنفيّ هو الذي يقوم بإنشاء مذهب جديد. وهذا أيضًا أمر اعتباري، فما المانع أن يُوجَد مجتهد ذو جاهٍ يكثُر تلامذتُه، فيؤسِّسون له مذهبًا؟

وحاول بعضهم أن يجعل الفرق بين "المستقلّ" المنفي في كلام الغزالي في "الوسيط"، و"المطلق" المعترف بوجوده (١)، [ص ١٧٧] وحاصلُه أن أحكام الشريعة فروع منتشرة، وإنما يتم الاجتهادُ فيها بضبطها بأصول وقواعد تُرَدُّ إليها وتُحمَل عليها، كقولهم: العام يُبنى على الخاصّ أو لا يبنى؟ المطلق يُحمَل على المقيَّد أو لا يُحمَل؟ وهكذا بقية الأصول المبيَّنة في أصول الفقه. فالأئمة السابقون قد تتبعوا الأدلة الشرعية واستقرأوها، ثم أصَّلُوا تلك الأصول، وجعلوا لكل أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه صارت بعد ذلك حقيقةً عرفيَّةً، فمن فعلَ مثلَ ذلك كان مجتهدًا مستقلًّا. ولا شكَّ أن تلك الأصول والقواعد محصورة، وقد أتى عليها أولئك الأئمة. فالمجتهد اليوم لا يُمكِنه تأصيلُ أصلٍ لم يَسبِقُوه إليه، فهو عيالٌ عليهم في ذلك.

وبهذا يتبيَّن أن العصر قد خلَا عن المجتهد المستقل، ليس لقصور الناس، بل لاستحالة أن يأتي أحدٌ بأصولٍ أخرى بعد أن استُغرِقت الأصول الممكنة. فالمجتهد في هذه العصور إذا اجتهد في بناء العام على الخاص، فإن ترجَّح له البناء فهو مذهب الشافعي، وإن ترجَّح له عدمُ البناء فهو مذهب أبي حنيفة، وهكذا في سائر الأصول.

وهذا الفرق كما تراه اعتباريٌّ، وذلك أن الأئمة المتقدمين لم يأتوا بشيء


(١) بعده بياض في الأصل في بقية الصفحة. والكلام متصل بما بعده.