عنه إلى انتقاض قواعده. وقد بيَّن السيوطي في رسالته "الرد على من أخلدَ إلى الأرض، وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض" أقوالَ هؤلاء الزاعمين أنه قد خلا الزمانُ من المجتهد، وأنهم إنما أرادوا المجتهد المستقل لا المجتهد المطلق، ولعله يأتي نقلُ ذلك إن شاء الله تعالى.
[ص ١٧٥] ثم ظهر لي أن الإمام الغزالي رحمه الله مصيبٌ في قوله: "قد خلا العصر عن المجتهد المستقل"، وأراد بالمستقل من لا ينتسب إلى مذهبٍ من المذاهب، وهذا صحيح، فإن المذاهب الأربعة لما انتشرت واستفحل أمرها عَمَّ الانتسابُ إليها أكثرَ الناس، ثم صار تعليم العلم إنما هو على طرقها، فطالب العلم لابدَّ أن يكون أبوه منتسبًا إلى أحدها، فيُرسِله إلى العلماء المنتسبين إلى مذهبه، فينشأ على ذلك المذهب، ويطلب العلم على طريقه، ثم إذا بلغ رتبةَ الاجتهاد لم تَزُلْ عنه تلك النسبة، وإن صار إنما يعمل باجتهاده ويخالف ذلك المذهب في كثير، وهو بنفسه لا يحبُّ أن تزول عنه النسبة خشيةً من الجهّال أن ينسبوه إلى الضلال، لاسيَّما والمناصب والمراتب اللائقة بأهل العلم قد صارت مختصَّةً بالمنتسبين إلى المذاهب، فيرى بقاءه منتسبًا ليتولَّى بعض تلك المناصب، فيأخذ منه ما يقتاتُه في مقابل معرفته بذلك المذهب إن كان الوقف خاصًّا ورأى صحته وصحة التخصيص، أو في مقابلِ قيامِه بتلك الوظيفة العلمية، أو غير ذلك. وهو مع ذلك يجتهد ويُصرِّح بمخالفته لمذهبه في مؤلفاته، وغير ذلك، ولكنه من حيث الاعتبار لا يزال في عداد أهل ذلك المذهب، فهو منتسبٌ على كل حال، وبهذا الاعتبار لا يُطلق عليه مستقل. وسائر المجتهدين في عصر الغزالي وقبلَه بكثير كلهم منتسبون على هذا.