أما أنا فلا أوافق على سدِّ باب الاجتهاد وتصحيح الأحاديث، ولكن أرى أنه لا ينبغي مخالفة حكم قد قال به أهل القرون الثلاثة، ولم يُعلَم منهم مخالف، ويبقى مجال الاجتهاد في أمرين:
الأول: الأحكام التي اختلف فيها علماء السلف، فيجتهد العالم في الترجيح بينها.
الثاني: في الأشياء التي لم يُنقل عن أهل القرون الثلاثة فيها شيء واضح.
أما الأول فإن العالم نفسه يطمئن إلى ما ظهر له؛ لأن له سلفًا، فيقول: هَبْني لم أبلغ درجة الاجتهاد فهذا قول مجتهد معروف، فكأنني قلدته، وقد جوَّز الناس تقليد المجتهد وإن لم يظهر للمقلد رجحان دليله، فأما أنا فقد ظهر لي رجحان دليله.
وكذلك يطمئن غير هذا العالم إلى قوله، إذا علموا أنه قول مجتهد معروف.
ولا يخشى من هذا ما يخشى من إطلاق الاجتهاد من التلاعب بالدين، اللهم إلا أن يدَّعي هذه المرتبة من ليس من أهلها، أو يكون ضعيف الدين، [ص ٣٥] لكن مثل هذا لا يصعب على أهل العلم والدين كشفُ حاله إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، فالشر هنا أخف، والمفسدة التي في سدّ الباب مطلقًا أشدّ، مع أن أكثر أهل العلم من المتأخرين قد فتحوا هذا الباب بجواز التقليد، وهذا خير منه؛ إذ ليس فيه ــ إذا أُعطِي حقَّه ــ تتبعٌ للرخص، وإنما فيه تتبعٌ للراجح من الأدلة، فإذا اتفق في مسألة أن يكون رخصة كان في أخرى شدة.