الدنيا، وليس في تلك الجهة غِربانٌ البتةَ، وأهل تلك الجهة سود، ولعل المخاطب أن يعرف ذلك ولو بعد سنين، أو يعرفه مَن بعده ولو بمئات السنين. فمن يبلغه هذا الخبر فحينئذٍ يتبيَّن أنني إنما قصدتُ بالغراب رجلًا أسود، فعلى هذا المخاطب إن راعى هذا الاحتمال [ألَّا] يقطع بظاهر الخبر.
وبعدُ، فلو احتمل هذا لاحتمل مثله في نصوص الأحكام من الحلال والحرام وغيرها، إذ لا فرقَ بين أن يعتدّ في القرينة بعقلٍ غير حاصل للمخاطب، وبين أن يعتد بقرينة أخرى غير حاصلة له.
ومعلوم بالضرورة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يتوقفون عن العمل بما ينزله الله تعالى عليهم مما له معنى ظاهر بيِّن، لاحتمال أن يكون هناك [تأويل] وإن لم يظهر لهم، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتوقفون عن اعتقاد ظاهر الكتاب والسنة إذا لم يظهر لهم بعد التدبر قرينة صارفة عن ذلك، ولا كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل المراد بهذا الكلام هذا الظاهر؟ بل لو كلِّفوا بذلك لاحتمل مثل ذلك في الكلام الثاني، وهكذا ويتسلسل، ولو كان يلزم الناسَ شيء من ذلك لكان من أحق ما ينبِّههم عليه الله ورسوله، إذ كيف يُقِرُّهم عليه طولَ أعمارهم وهو غلط يؤدي إلى اعتقاد الباطل؟
وفوق هذا فكثيرًا ما يكون في سياق الكلام وسباقه ما يصير به نصًّا في المعنى لا يحتمل التجوُّز أصلًا، وقد يحتمل النص الواحد التجوّزَ ولكنه إذا ورد ذلك المعنى في مواضع كثيرة وكلها تفيد ذلك الظاهر متفقة عليه= استفيد من مجموعها القطعُ بذاك الظاهر.
فإن قيل: فإن الله تبارك كما وصف نفسه بأنه يهدي، فقد وصف نفسه بأنه يُضلّ، وكما وصف كتابه بأنه هُدًى، فقد وصفه بأنه يُضلّ به.