للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بُعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة. فأما إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة، فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما يُنقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض.

وحاصله: أن أكثر الناس مُغْرَون بتقليد من يعظُم في نفوسهم والغلوِّ في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدلَّ ذلك على أنه أخطأ، ولا يحلّ لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه= قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عَرف ما يدفع دليلَكم هذا. فإن زاد المنكرون فأظهروا حُسْن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلوّ متبعيه. خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفَّهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة، فقال: "والله إنها لزوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي". أخرجه البخاري في "الصحيح" (١) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار. [١/ ١٢] فلم يؤثِّر هذا في كثير من الناس، بل رُوي أن بعضهم أجاب قائلًا: "فنحن مع من شهدْتَ له بالجنة يا عمار" (٢).

فلهذا كان من أهل العلم والفضل مَن إذا رأى جماعةً اتبعوا بعض


(١) (٧١٠٠، ٧١٠١).
(٢) أخرجه الطبري في "تاريخه": (٣/ ٢٧) وفي سنده سيف بن عمر الضبّي أخباريّ متروك.