للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحميدي: «لما استصحبه الشافعي إلى مصر باعتبار أنه راوية ابن عيينة أخذ يطمع أن يخلُف الشافعيِّ بعد وفاته. ولما علم أن أصحابه لا يرضونه لبعده عن الفقه، حكى عن الشافعيَّ أن أحقَّ جماعته بمقامه هو البويطي، فكذَّبه محمد بن عبد الحكم. ولم يكن مثلُ الإمام الشافعي لِيُسِرَّ إلى آحاد الآفاقيين بما يكتمه عن جماعته. ولو كان رأيه أن يكون البويطي خلفًا له لَجاهرَ بذلك أمام جماعته، لئلا يختلفوا بعده. وقد غرِمَ البويطيُّ ألفَ دينار ــ والألف كثير ــ إلى أن يُصلح قلوبَ الجماعة، كما حكى الحافظ ابن حجر في «توالي التأسيس»، وللبراطيل أفاعيل! وكان هوى الحميدي مع البويطي لتقاربهما في المنزع، وبُعدِهما عن الغوص على دقائق الفقه، بخلاف المزني وابن عبد الحكم. ولولا أنه كان راوية ابن عيينة لكان الناس استغنوا عنه وعن حديثه لبذاءة لسانه».

أقول: الحميدي هو الذي اعتمد صحبةَ الشافعي. وفي كتاب ابن أبي حاتم (ج ٣ قسم ٢ ص ٢٠٢) عن الحميدي أنه يقول: «كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة. قلت: ومن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق، فلم يزل حتى اجترَّني إليه، ودارت مسائل. فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ فوقع كلامه في قلبي، فجالسته، فغلبتهم عليه ... [١/ ٢٩٤] وخرجت مع الشافعي إلى مصر». وكان الشافعي قد استكثر من ابن عيينة، فلم يكن به حاجة إلى الحميدي ولا غيره.

وزَعْمُ طمعِ الحميدي أن يخلُفَ الشافعيَّ بمصر من مخلوقات الأستاذ، ليس عليه أدنى شبهة. بل كان الحميدي مكينًا بمكة، مؤثِرًا لها. وإنما فارقها تلك المدة إلى مصر إيثارًا لصحبة الشافعي، فكان أقصى همِّه أن يعود إليها.