ذلك وعُلِم حُكمه مِمَّا مرَّ، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه. وما ذَكَر أنه رُوي عن عمَّار وابن مسعود لم يثبت، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى، فهي فلتة لسان عند ثورة غضب، لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يوهمه (١) ظاهرها، فكيف وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبشير عثمان بالشهادة والجنة؟
ثم قال ص ٣٢٦:(الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا ... وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يُرْوَى أو نكذب كل ما يُرْوَى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد ... فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها، وأن نضيفَ إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدّثون من القواعد الجديدة ... ).
أقول: الرواة كما وصف، ولكن لا يجهل عاقل أن أحوالهم مختلفة: فمنهم المغفَّل المتساهل الذي يبني على التوهُّم فيكثر غلطُه، ومنهم الضابط المتقن المتثبِّت الذي يندر جدًّا أن يخطئ، وليس كلّ ما يصلح مستندًا للتوقف عن خبر الأول أو ردّه يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني. فأما الصدق وتعمّد الكذب ولا سيما في الحديث النبوي فالأمر فيهما أعظم، وللكذب دواعٍ وموانع، والناس متفاوتون جدًّا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة، فيقول له الدكَّاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبًا: إن صاحب ذاك الدكَّان يبيعها بقرشين؛ يكذب هذه الكذبة طمعًا في أن يغرّ الدكَّانيَّ فيعطيه إياها بقرشين، مع علمه