المسلك الأول: هذا الذي تقدم. وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عُمِل بالناسخ، فإن لم يُعلم فبالراجح. تعارضت الأدلة هنا ولم يُعلَم الناسخ فتعيَّن العملُ بالراجح. ومن المرجِّحات نفيُ [٢/ ٩٤] الحد، أي أنه إذا كان أحدُ الدليلين المتعارضين مثبتًا لحدٍّ والآخرُ نافيًا له، كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني. فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبِتة للحدِّ في ما ساوى ذلك وما زاد عليه. والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقلَّ من عشرة دراهم نافية للحدّ فيما دون ذلك، فجاء التعارض فيما يساوي ربع دينار، أو يزيد عليه ولكنه لا يبلغ العشرة، ولم يُعلم الناسخ، فترجَّح النافي.
والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يَثبتُ، كما ستراه مفصلًا، فليس بدليلٍ أصلًا. هَبْه ثبَتَ، فعدُّ نفي الحدِّ من المرجِّحات فيه نظر، وما يذكر فيه من السنة لا يثبت. هَبْه ثبَتَ، فلا حجة فيه، للاتفاق على أن الحد يثبت بخبر الواحد ونحوه مما يقول الحنفية إنه دليل فيه شبهة. وإنما الشبهة التي يُدرأ بها الحدُّ ما يقتضي عذرًا ما للفاعل، كمن أخذ ما له فيه حق، فإن له أن يقول: لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي؛ وكالواطئ في نكاح بلا ولي، فإن له أن يقول: لم أزْنِ وإنما أتيت امرأتي. فأما من يقول: سرقتُ عالِمًا بأن السرقة حرام، لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذه توجب الحد، فلا عذر له، ولا يُدرأ عنه الحدُّ، كما لا يُدرأ عمن قال: سرقت عالمًا بأن السرقة حرام، ولكن لم أعلم بأن حكم الإسلام قطع يد السارق. بل ذاك أولى، فإنه إذا لم يُعذر بجهل وجوب الحد من أصله، فكيف يُعذر بالتردد فيه؟ هَبْه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح، فللمثبت مرجحاتٌ أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله.