للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[٣ - فصل]

وكما اقتضت الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفةً قاهرةً، فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة. قال الله عز وجل: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٣٣ - ٣٥].

وذلك أنه لو كان كلُّ من كفر بالله خصَّه الله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناسَ كلهم في الكفر.

فتلَخَّص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، وأن لا تكون البينات قاهرة، ولا الشبهات غالبة. فمن جرى مع فطرته مِن حبِّ الحق، وربَّاها ونمَّاها وآثر مقتضاها، وتفقَّد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها، لم تزل تتجلَّى له البينات، وتتضاءل عنده الشبهات، حتى يتجلَّى له الحق يقينًا فيما يُطْلَب فيه اليقين، ورجحانًا فيما يكفي فيه الرجحان. وبذلك يثبت له الهدى، ويستحق الفوز والحمد والكمال على ما يليق بالمخلوق. ومن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا، تبرقعت دونه البينات، واستهوته الشبهات، فذهبت به "إلى حيثُ ألقَتْ رَحْلَها أمُّ قَشْعَمِ" (١).


(١) عجز بيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، وصدره:
فشَدُّوا ولم تفزَعْ بيوتٌ كثيرةٌ
انظر "ديوانه" بشرح ثعلب (ص ٢٢).