للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على أنه رجع عن الميل إلى منع رواية الحديث بالمعنى، أو رأى جوازها في [ص ١٧٣] غير الحديث النبوي ــ ولو مع التمكُّن من الإتيان باللفظ الأصلي ــ إذا كان ذلك لمصلحته، ومصلحتُه هنا: أنه كره أن يصرِّح بأن الخشية كانت من استحرار القتل بقراء القرآن خاصة، وأحبَّ أن يجعلها من استحرار القتل بالصحابة على الإطلاق ليبني عليها ما علّقه في الحاشية إذ قال: (مما يلفت النظر البعيد ويسترعي العقل الرشيد: أن عمر لما راعه تهافت الصحابة في حرب اليمامة .. لم يقل عنهم إنهم حَمَلة الحديث، بل قال: إنهم حملة القرآن، ولم يطلب جمع الحديث وكتابته ... وفي ذلك أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر الحديث، ولا أن يكون لهم فيه كتاب محفوظ ويبقى على وجه الدهر كالقرآن الكريم).

أقول: الذي في الخبر ــ كما رأيتَ ــ خشية استحرار القتل بقُرَّاء القرآن، وبين القرآن والسنة فَرْق من وجوه، وبيانُ ذلك: أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ الشريعة مما فيه (١) الكتاب والسنة كما مرَّ (ص ٢٠ - ٢١) (٢)، ومع ذلك كلَّفَ الأمةَ القيامَ بما يتيسّر لها من الحفظ، ولمَّا كان القرآن مقصودًا حفظ لفظه ومعناه، وفي ضياع لفظةٍ واحدة منه فوات مقصودٍ دينيّ، وهو مقدارٌ محصور يسهُل على الصحابة حفظه في الصدور وكتابته في الجملة= كُلِّفوا بحفظه بالطريقتين، وبذلك جرى العمل في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتوفّاه الله تبارك وتعالى والقرآنُ كلُّه محفوظ في الصدور مفرَّقًا، إلا أنّ معظمه عند جماعة معروفين، وإنما حَفِظَه جميعَه بضعةُ أشخاص، ومحفوظ كلّه


(١) كذا في (ط).
(٢) (ص ٤١ ــ ٤٤).