وقول الأستاذ:«ومن جهل شيئًا أنكره وعاداه» لا محل لها هنا، فإن دعوى أن أحمد كان يجهل طريق استدلال أبي حنيفة في القضايا التي ردَّ بها السنة دعوى باطلة، بل أكثر الناس يفهمون ذاك الاستدلال، ويعرفون بطلانه، كما ستراه في قسم الفقهيات. وسترى هناك بعض ما يُروى عن أبي حنيفة من مجابهة النصوص بتلك الكلمات التي تدل على ما تدل عليه، إن صحَّت.
فصل
قال الأستاذ:«وليس بقليل بين الفقهاء من لم يرض تدوين أقوال أحمد في عداد أقوال الفقهاء، باعتبار أنه محدِّث غير فقيه عنده، وأنَّى لغير الفقيه إبداء رأي متزن في فقه الفقهاء!».
أقول: يشير بهذا إلى أن ابن جرير لم ينقل أقوال أحمد في كتابه الذي ألَّفه في «اختلاف الفقهاء». ولَأن يُعاب بهذا ابن جرير أولى من أن يعاب به أحمد، ولكن عذره أنه ــ كما يُعْلَم من النظر في كتابه ــ إنما قصد الفقهاء الذين كانت قد تأسست مذاهبهم ورُتِّبت كتبهم. ولم يكن هذا قد اتضح في مذهب أحمد، فإنه رحمه الله لم يقصد أن يكون له مذهب ولا أتباع يعكفُون على قوله، وإنما كان يفتي كما يفتي غيره من العلماء، ويكره أن يُكتَب كلامه، فكانت فتاواه عند موته مبعثرةً بأيدي الطلبة والمستفتين، وأدركها ابن جرير كذلك، وإنما رتَّبها وجمَعها أبو بكر الخلَّال، وهو أصغر من ابن جرير بعشر سنين (١).
(١) ولد ابن جرير سنة ٢٢٤ وتوفي سنة ٣١٠، وولد الخلال سنة ٢٣٤ أو بعدها بسنة، وتوفي سنة ٣١١.