وقد لا يكتفي الشيطان منه بهذا، بل يقول له: وكيف تعقل مثل هذا؟ وما تظنه حجةً على الوجود قد جرَّبتَ أمثالَه في تلك الأمور. فليس هناك حجة، وإنما هي شبهاتٌ نسجتْهَا الأوهامُ والأغراضُ في العصور المظلمة. فكن حرَّ الفكر قويَّ الإرادة، وخلِّص نفسَك من تلك القيود والأغلال، فإنك في عصر العلم!
فهذه هي الحقيقة والغاية لتلك الوحدة التي موَّه ابن سينا عبارته عنها. فإنه يزعم أن ذات الله عز وجل ليست منفصلةً عن العالم ولا متصلةً به، ليست خارجةً عنه ولا هي فيه، ليست مباينةً له ولا محايثةً، لم تُوجد الذوات الأخرى حين وُجِدت خارجَ ذات الله عز وجل قريبًا أو بعيدًا، ولا داخلَ ذاته. والمتكلمون وافق أكثرهم ابن سينا على هذا الأصل، ثم يقع [٢/ ٢٨٧] الخلاف في التفريع. فابن سينا وموافقوه يقولون: لا قدرة لله عز وجل ولا إرادة ولا علم بالجزئيات. واستحيا بعضهم فقال: يعلم ذاته. وعندهم أنه لا شأن لله عز وجل بخلق ولا تقدير ولا اختيار ولا تدبير، بل عندهم أنه سبحانه ليس بربٍّ للعالم، وإنما هو السبب الأول لوجوده في الجملة.
وذلك أن أصول الموجودات عندهم أشياء قديمة: أحدها: وجود محض هو عندهم الواجب لذاته، أو قل:«الله». الثاني: شيء نشأ عن الأول بدون قدرة للأول ولا إرادة ولا علم! ويسمون هذا الثاني «العقل الأول». قالوا: ونشأ عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك، وهكذا إلى عشرة عقول، وتسع أنفس، وتسعة أفلاك! قالوا: والعقل العاشر هو العقل الفعال، وهو المدبِّر للعالم السُّفلي بواسطة الكواكب وتغيُّر مواضعها. ولا شأن عندهم لله تعالى بالموجودات البتة، خلا أنه كان في القدم سببًا محضًا