والنظر الواضح يكشف هذا. فإنك لو كنتَ مريضًا فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سمٌّ قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سمًّا، ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضارٌّ، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع= أفلا يقضي عليك العقلُ ــ إن كنت عاقلًا ــ بأن تجتنب ذاك الشيء؟
أوَ ليس مَن يأمرك ويُلِحُّ عليك أن تصرِفَ وقتك في تناول ذاك الشيء تاركًا ما اتفقوا على نفعه بحقيقٍ أن تَعُدَّه ألدَّ أعدائك؟
وتدبَّرْ في نفسك: أيصح من عاقل محبٍّ للإيمان خائفٍ من الشرك أن يستحضر هذا المعنى، ثم يصرَّ على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركًا؟ أوَ ليس مَنْ يُصِرُّ إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركًا؟!
المطلب الثالث: الفقهيات. والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه ــ كما مرَّت الإشارة إليه ــ لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فِرَقًا متنازعةً وشِيَعًا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديمِ أقوالِ الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص. وإذْ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك، فإنما أوقعهم الهوى، فلا مَخْلَصَ لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغَيِّ، ويتناسَوا ما استقرَّ [٢/ ٣٨٤] في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبَوها مذهبًا واحدًا اختلف علماؤه، وأنَّ على العالم في زماننا النظرَ في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيارَ الأرجح منها.