من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل. ومِن أمضى أسلحته: أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم.
يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أولَ ما غلوا في عيسى عليه السلام، كان الغلاة يرمون كلَّ من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك، فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلوّ؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسبوا إلى ما هم أشدُّ الناس كراهيةً له، من بغض عيسى وتحقيره، ومَقَتهم الجمهور، وأوذوا؛ فثبَّطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان. وقريب من هذا حال الغلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلّدين.
وعلى هذا جرى الأمر في هذه القضية. فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين، وأسْكَتَ أهلَ العلم في مصر وغيرها برمي كلّ من يهمُّ أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته.
ولما اطلع الأستاذ على "الطليعة" جرَّد على صاحبها ذلك السلاح. ومَن تصفَّح "الترحيب" علم أن ذلك ــ بعد المغالطة والتهويل ــ هو سلاحه الوحيد، فهو يبدئ فيه ويعيد، ونفسه تقول: هل من مزيد! ومع ذلك يضطرب، فمن جهةٍ يقول في "الترحيب"(ص ١٥):
"أخبار الآحاد على فرض ثقة رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلًا عن المتواتر، وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأمة بالتواتر".