للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على أنَّها برهانٌ قاطعٌ إلَّا وجدتَ غيره قد نقضها، ثم يجيء ثالثٌ فيدفع هذا النقض،

فيجيء رابع فيردُّ الدَّفع، وهكذا.

حُجَجٌ تهافت كالزُّجاج ... فكُلٌّ كاسرٌ مكسور (١)

ثم اعْلم أنَّ أعظم ما يستندون إليه هو الاستقراء؛ فيستقرئون ما يدخل تحت حواسهم حتى تنتظم لهم مقدِّمةٌ كليَّةٌ بالنِّسبة إلى ما استقرؤوه، ثم يزعمون أنَّه لا يخرج موجودٌ عن تلك الكُليَّة، وذلك أمرٌ بديهي البُطلان؛ فإنَّهم يقولون: الحيوان كلُّه يُحرِّك فكَّه الأسفل إلَّا التِّمساح (٢)، فلو فَرَضْنا أنَّهم لم يَرَوا التِّمساح ولا سمعوا به، كأن كان في أمريكا قبل اكتشافها= فهذا الاستقراء يكون في زعمهم برهانًا قاطعًا على أنَّه لا يوجد حيوانٌ يحرِّك فكَّه الأعلى! وهم يبالغون بزعمهم في نفي مشابهة الربِّ عزَّ وجلَّ لشيءٍ من خلقه، ثم يحكمون عليه بما استقرؤوه من خلقه.

ومن أعظم بلايا العقل دعواه أنَّه لا يَتَعالى عن إدراكه شيء، كثيرًا ما ينظر فإذا لم يُدْرِك جَحَد، ولا سيَّما عقول هؤلاء القوم الذين تسرَّب إليهم


(١) كذا بالأصل وهو غير موزون، مع وضوح معناه، والمشهور:
حججٌ تهافت كالزجاج تخالها ... حقًّا وكُلٌّ كاسرٌ مكسورُ
ولم أر مع شهرة هذا البيت نسبته لقائلٍ.
ولابن الرُّومي في "ديوانه" (٢/ ١٦٦):
لِذَويِ الجِدَال إذا غَدَوا لجدالهم ... حُججٌ تضلُّ عن الهُدَى وتجُوْرُ
وُهْنٌ كآنية الزُّجاج تصادمت ... فَهَوَت وكُلٌّ كاسِرٌ مكسورُ
فالقاتل المقتول ثَمَّ لضعفه ... وَلِوَهْيِهِ والآسِرُ المأسورُ
(٢) يُنْظَر: "الحيوان" للجاحظ (٧/ ١٠٣).