جهدهم، فأبدوا فصولًا طويلة في ذمِّ سوء الظن، وجمعوا أقاصيص فيما يلحق المنكِر على أمثالهم من الضرر!
وهب أن مثل ذلك يقع، فإنه محمول على السحر، وقد ثبت في «الصحيحين»(١) أن لبيد بن الأعصم اليهودي سَحَر رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه فَعَل الشيء ولم يفعله، أي من أمر دنياه، فأما أمر الدين فإنه معصومٌ فيه قطعًا.
وادّعوا أن لهم اصطلاحات وأذواقًا لا يعرفها غيرهم، وأن لهم شطحات وإطلاقات تجري على ألسنتهم حال الفَناء لا يُراد بها ظاهرها.
والحاصل أنهم بنوا خُطّتهم على نظام محكم، وأعَدّوا لكلِّ شيءٍ عُدَّته قائلين: إن مقالاتنا هذه لا تصادف إلا أحد رجلين؛ رجلًا مغفّلًا يتمسّك بها ويعتقدها، وهذا هو مرادنا. ورجلًا ثابتًا في دينه يعلم أنها منكر، فقد أعددنا له عدّته بما يمنعه عن قصدنا بالشرِّ. ثم لا تزال دعوتنا تفشوا وتشيع في الناس على هذا المنوال. وقد صدّقوا على الناسِ ظنَّهم، فإنه لما شاعت تلك الكتب بين الناس لم تَلْقَ إلا قليلًا من المنكرين، والجمهور على عدم الإنكار، منهم من حَسَّن الظن، ومنهم من خاف المضرّة، ومنهم من افتتن بها فعمل بظاهرها، حتى كان منهم من يدّعي ارتفاع التكليف، ومَن يزعم أن الولي قد يكون أفضل من النبي، إلى غير ذلك مما إن كنت سمعتَ به فقد سمعتَ، وإلا فخيرٌ لك أن لا تسمع.
ولا شك أن أوائل هؤلاء القوم كالجنيد وأصحابِه أئمةُ هدى وصلاح
(١) البخاري (٣٢٦٨)، ومسلم (٢١٨٩) من حديث عائشة رضي الله عنها.