وأقول: إنه لا منافاة؛ فإن المراد بالغنى الكفاف، بمعنى أنَّ أفضل الصدقة ما لم تخلَّ بالكفاف. أي ما تركتْ لصاحبها ما يكفيه. والمقصود أن المتصدِّق له حالان:
الأولى: أن يتصدَّق وقد بقي له ما يكفيه.
الثانية: أن يتصدَّق بقوته الذي هو محتاج إليه.
فالأولى أفضل. وقوله في الحديث الآخر:«جهد المقل» لا ينافي هذا؛ لأن جهد المقلِّ المراد به أقصى ما قدر عليه حيث لم يبق له غير الكفاف.
والحاصل أن للمتصدِّق في نفس الأمر ثلاثة أحوال:
الأولى: أن يتصدَّق وقد بقي عنده أكثر مما يكفيه.
الثانية: أن يتصدَّق وقد بقي عنده ما يكفيه فقط.
الثالثة: أن يتصدَّق بقوته ويبقى محتاجًا.
فقوله:«عن ظهر غنى» يشمل الحالين الأوليين. وإنما فَضَّلهما بالنسبة إلى الثالثة. وقوله:«جهد المقلِّ» فَضَّل فيه الثانية على الأولى.
نعم، إنما يشكل ما جاء في فضل الإيثار لقوله عز وجل:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: ٩].
والجواب: أن جهد المقل أفضل من الإيثار غالبًا، ولكن قد يكون الإيثار أفضل في بعض المواطن كحال الصحابي وزوجته اللذَين آثرا ضيف