فأما إقسامه بأبي غيره فقد يساعد الظاهر على أنه قصد به من الضرب الرابع، كما تقدَّم في كلمتي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكلمة أبي بكر رضي الله عنه، وعلى هذا فإما أن يكون ذلك مُخَصِّصًا لعموم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«لا تحلفوا بآبائكم»، وإما أن يُقال: إن الإضافة في قوله: «بآبائكم» كهي في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: ٢٣]، والمعنى: لا يُقْسِمْ أحدٌ منكم بأبيه، وعلى هذا فلا يدخل فيه حلف أحدهم بأبي غيره، ويبقى حكم ذلك مسكوتًا عنه، فما كان بمعنى المنصوص أُلْحِقَ به وما لا فلا. فأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليسكت»، وقوله:«مَن حلف بغير الله فقد أشرك»، فعامٌّ مخصوص تُخَصِّصه الأدلَّة الدالَّة على جواز ما يجوز من الضرب الرابع.
ولقائلٍ أن يقول: إنَّ القسم الجائز من الضرب الرابع لا يسمَّى حلفًا، بدليل أنَّ الحلف لم يجئ في القرآن إلاّ في معرض الذمّ، كما تقدّم، ولا يُذمُّ القَسَم [٧٣٢] من الضرب الرابع؛ لأنه عبارة عن إقامة دليل وحجة، وليس فيه تعظيم لغير الله تعالى ولا ما يستلزم تعظيمًا ولا ما يوهمه، ولذلك كثر إقسام الله عزَّ وجلَّ في كتابه، مع قوله:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم: ١٠].
ويستأنس لهذا بأن الحلف مأخوذ من حلافة اللسان كما تقدَّم، وحلافة اللسان مأخوذ من قولهم: سنان حليف، إذا كان مُحَدَّدًا، وحِدَّة اللسان وحلافته عندهم ليس بمدح، فكأنهم إنما يريدون بها ما لا يستند إلى الدليل والحجة؛ لأن الاستناد إلى الدليل والحجة ليس موضعًا للذمِّ، ولا يناسب أن يقال لصاحبه: حديد اللسان، بل يوصف بالسداد والبيان والثبات ونحو ذلك، فتأمل.