فإنه يجزئه قول العالم: هذه الأدلة تفيد هذا الحكم، ولا أعلم ما يخالف ذلك. وهل قبول العاميّ لذلك تقليد أُبيح للضروة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول العالم "هذه الأدلة تفيد هذا الحكم" كافيًا في حقّه، لأنه في معنى الرواية بالمعنى. وقوله:"ولا أعلم ما يخالف ذلك" بعد البحث بمنزلة بحثه ومراجعته، لأن ذلك جهد استطاعته.
والحاصل أن العالم في تلك العصور كان يعمل ويقضي ويفتي ويروي ما بلغه ما لم يطلع على ما يخالفه، وكذلك العامي، والعالم كان يجتهد له ولغيره، بأن يراجع مظانّ الأدلة في صدور الرجال أو الكتب، ويدقّق النظر، فإن وجد دليلًا ظاهرًا لا يعلم له مخالفًا قال به، وإلّا اجتهد، بمثابة وجود العالم له. وكذلك العامي، فإن سؤاله للعالم عن حكم قضية لنفسه أو لغيره هو كمراجعة العالم للماهر، وذكْرِ العالم له الدليلَ الذي لا يعلم له مخالفًا. والعالم يراجع علماء اللغة فيما خفي عليه، فكذلك العامي في استفهامه للعالم. وكما قيل في العالم عند التعارض وعدم الترجيح قيل في العامي عند تعارض المفتين، وكما أن العالم إذا لم يؤدِّه اجتهاده إلى ترجيح شيء توقّف، فعلى نحو ذلك العامي.
وقد كان هذا يقع من الصحابة في حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - ومع القرب منه، ولم ينكره ولا قال: إذا فهمتم فهمًا في كتاب الله تعالى أو بلغكم عني حديث فلا تعملوا به حتى تراجعوني، بل قد بقي بعضهم يعمل بما نُسِخ بقيةَ حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد وفاته، حتى بلغه الناسخ بعد ذلك، وربما مات قبل أن يبلغه.
ثم كان صغار التابعين مع كبارهم على هذا النحو، يجيء العامي فيسأل من لقيه من العلماء عن مسألة، فيتلو عليه الآية أو يروي له الحديث ويُفهِمه