بالبحث، فهذا الفقيه اجتهد في كلام متأخري فقهاء مذهبه، ومتأخرو فقهاء مذهبه إنما اجتهدوا في كلام مَن قبلَهم، والذين قبلَهم اجتهدوا في كلام من تقدمهم، وهكذا تسلسلت الاجتهادات حتى تصلَ الإمامَ المجتهد المطلق.
فإن قلتم: إن هذا العامي بالصفة المذكورة مقلِّدٌ لذلك المجتهد المطلق صاحب المذهب، فأولى منه أن نقول: إن العامي المستفتي للمجتهد عامل بالدليل، لا مقلِّد لذلك المجتهد، وإنما عَمِلَ بقوله في نفي المعارض، وهذه رواية ظنية على النفي، جاز العمل بها للضرورة، مع موافقتها للأصل الذي هو عدم المعارض.
وإن قلتم: إن العامي المستفتي للمقلِّد مقلِّد له، وهَلُمَّ جرًّا، فقد نسلِّم أن المستفتي للمجتهد قد يضطرُّ إلى نوع من التقليد للضرورة التي ذكرتموها، ولكن ما جاز للضرورة قُدِّر بقدرها، ولا يلزم من جواز الشيء للضرورة جوازه مطلقًا. وهذا بخلاف حال العامي المستفتي للفقيه المقلّد فإنه مقلّد له بلا ضرورة، لقدرته على سؤال المجتهدين وتحصيلِ علمٍ مقتبسٍ من الدليل. وكذلك المفتي في تقليده لمن قبله، والذين قبله في تقليدهم في بعض المسائل لمن قبلهم، وكذلك الذين قبلهم في تقليدهم لمن تقدمهم، وهكذا حتى يبلغ إلى الإمام.
ولا يستوي البحران، فإن مستفتي المجتهد لم يُقلّده في المسألة من أصلها، فإننا نوجب أن يتلو عليه الآية أو يُخبره بالحديث، فهو إنما عمِلَ بتلك الآية أو بذلك الحديث، وإنما قلَّده في عدم المعارض ونحو ذلك للضرورة، على فرض تسليم أن ذلك تقليد.