للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لدى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشْعم (١)

أتدري أيها الشيخ أيَّ دمٍ أرَقْتَ؟ وأيَّ أديم مزَّقْتَ؟ أتحسبُ فريستَك هي ذلك الدليل المخالف لهواك؟ كلَّا فإنه حجة من حُجج الله تعالى على خلقه، وحجج الله تعالى معصومة: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: ١٥٧]. إنما مُثِّلَ لك دينُك وإيمانُك، فعليهما كان عدوانك! ومن دَمِهما ارتوى سيفُك وسنانُك! وبمَصْرعِهما اشتفَى هواك وشيطانُك! وقد كنتَ في غِنًى عن هذا، فإنك تقول: إنك مقيَّدٌ بمذهبك، لا يلزمك الخروج عنه ولو ثبتَ الدليل، ولا يلزمُك إقامةُ دليلٍ على صحة مذهبك ولا دَفْعُ دليلٍ يخالفه، وتقول: إن فَهْمَ الأدلةِ كما ينبغي خاصٌّ بالمجتهد. فما حملَكَ بعد ذلك أن تسعَى لتكلُّف الاحتمالات البعيدة لمناصرة مذهبك، وتعدو على الأدلة المخالفة له فتؤوِّلها وتحوِّلها وتحرِّفها عن مواضعها؟ فهل هذا إلّا التناقض المحض والتعصب البحت؟ وهل هذا إلّا غِلٌّ في قلبك على كل ما خالف مذهبك وغلوٌّ في التعصب له؟ عكس ما ورد في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به" (٢).

نعم، التأويل جائزٌ للمجتهد عند تعارض الأدلة للجمع بينها، مع تحرِّي الحقّ وتوخِّي الأرجح في نفس الأمر، أما في غير ذلك فلا، ولا كرامة.

[ص ١٨٢] بالله عليك تدبَّرْ قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي


(١) عجز بيت لزهير من معلقته.
(٢) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (١٥) والخطيب في "تاريخ بغداد" (٤/ ٣٦٩) والبغوي في "شرح السنة" (١٠٤) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (٢/ ٣٩٤): تصحيح هذا الحديث بعيدٌ جدًّا من وجوه، ثم ذكرها.