والمضرّة التي لا نهاية لها في القَدْر، ولا في المدة وهي الأخروية؟ ! فمن حَصَل له ظنٌّ ما بأنّ للعالم ربًّا هو المدبر في الحياة، وإليه المرجع في الآخرة، فمِنْ أحْمَق الحُمْق أن يلغي هذا الظن، بل ينبغي أن يستعرض الأديان، فأيها كان أقرب إلى الحق التزمه وعمل به.
بل نجد العقلاء في مصالح الدنيا إذا شكُّوا في شيء أخذوا بالأحوط، فقد يتكلف أحدهم التعب والمَغْرَم لجلب منفعة مهمة أو دفع مضرة شديدة، ليس عنده ظن بحصولهما، ولكنه يقول: يحتمل أن تقعا. فإن كانت تلك المنفعة أو المضرَّة لا تحصل أصلًا كنتُ قد أضعتُ تعبي ونفقتي، وإن كانت تحصل المنفعة وتندفع المضرَّة إذا تعبت وغرمت، وتفوت المنفعة وتقع المضرة إذا لم أتعب ولم أغرم، فقد فزت فوزًا عظيمًا بتعبي وغرامتي، فأنا بين أمرين: إن تعبت وأنفقت خشيت ضياع تعبي ونفقتي، وإن لم أتعب ولم أُنفق خشيت فوات تلك المنفعة العظيمة ووقوع تلك المضرَّة الشديدة، وضياعُ التعب والنفقة أهون من فوات تلك المنفعة ووقوع تلك المضرة، والعاقل إذا خُيّر بين [ص ٢٩] ضررين اختار أهونهما.
بل نجد العقلاء يصنعون مثل هذا في جلب المنافع العظيمة ودفع المضار الشديدة التي يُظنّ عدم حصولها، يقول أحدهم: يترجّح عندي أنها لا تكون، ولكن يحتمل أن تكون.
أقول: فإذا كان هذا حالهم في منافع الدنيا ومضارها التي تنقطع عما قليل ــ كما مر ــ، فينبغي للعاقل مثل ذلك وأولى منه في أمر الدين.