للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورُبَّما حَمَلَتْه على الخوض والكلام، والنَّقض والإبرام فيما يعلم أنَّه لا سبيل له إليه، وكم من راسخ يرميه النّاس بالكفر والضَّلال، وكم من زائغٍ يتَّخذونه إمامًا في الدِّين!

فالحقُّ أنَّ هذه الآيات أفادت علامة الزَّائغ، وآية الرَّاسخ.

فعلامة الزَّائغ اتِّباع المتشابه ابتغاء الفِتْنة وابتغاء تأويله، وإذا خَفِيَ علينا

ابتغاء الفتنة لم يَخْفَ ابتغاء التأويل. وآية الرَّاسخ الكفُّ عن ذلك، والاكتفاء بقوله: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ... }.

وفي "الصَّحيحين" وغيرهما (١) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تلا هذه الآيات، ثم قال: "إذا رأيتم الذين يتَّبِعُون ما تَشَابَه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذروهم".

فأطْلَق الحديث ولم يقيِّد؛ لكنَّه قد عُلِم إخراجُ الاتِّباع على معنى التِّلاوة والإيمان، وبقي الاتِّباع ابتغاءَ التَّأويل، ولم يُقيِّده بابتغاء الفِتْنة ولا غيرها، فعُلِم صِحَّة ما قلناه، وهو: أنَّ ابتغاء التأويل زيغٌ، كما أنَّ ابتغاء الفِتْنة زيغٌ، ولم يقيِّده - صلى الله عليه وآله وسلم - بعدم الرسوخ، فعُلِم أنَّ كلَّ من ابتغى تأويله فهو زائغٌ وليس براسخٍ، وأكَّد هذا ما يُفْهَم من الحديث: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان واثقًا بأصحابه الذين خاطبهم أنَّهم لا يتبِّعون المتشابه، وإنَّما حذَّرهم ممَّن نَشَأَ بعدهم، وهم رضي الله عنهم أولى بالرسوخ من غيرهم؛ فعُلِمَ أنَّ الرَّاسخ لا يتَّبع المتشابه أصلًا إلَّا على معنى تلاوته والإيمان به.


(١) البخاري (٤٥٤٧)، ومسلم (٢٦٦٥)، وأبو داود (٤٥٩٨)، والترمذي (٢٩٩٣)، وأحمد في "مسنده" (٦/ ٤٨، ٢٥٦) وغيرهم، بألفاظ متقاربة.