قلت: فإنّ في كلامه ما يردّ هذا، وأنه يرى أن جعلهم كعصف مأكول إنما هو نتيجة لأكل الطير. قال في الشاهد الثالث:"فكذلك أكلت هذه الطيور جثث تلك الملحدين فكانوا كعصف أكلته جراد موسى".
فإن سلمنا أن هناك إشارةً ما، فهي إشارةٌ ضعيفةٌ؛ لاحتمال أن يكون المعنى: جعلهم كذلك برميكم إياهم، فإن المشركين كانوا مما يقولون نحو ذلك. تقاتل القبيلة عدوها فتغلبها، وتكثر فيها القتل، وتهزمها، ثم تقول الغالبة: قد قتل الله عدونا، وهزمهم، وأهلكهم. فمن ذلك قول بعض تيم الرباب لعبد يغوث، وقد قاتلوا قومه، فأثخنوا فيهم، وأسروه: جمعتَ أهل اليمن، وجئتَ لتصطلمنا، فكيف رأيتَ الله صنع بك؟ (١).
ومع ذلك فقد تقدم أن التصريح بالنفي في رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبطل أن يكتفى في رمي المشركين ــ إن كان ــ بالإشارة.
وذكر المعلِّم في الشاهد الثاني أثر الرماد الذي ذرَّه موسى عليه السلام، وفيه:"فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور". ثم طبق عليها قصة الفيل:"فهكذا كان الأثر من الحجارة على أصحاب الفيل، فروي عن عكرمة أنه من أصابته أصابه جدري. وهكذا قول ابن عباس وسعيد بن [ص ٦٢] جبير ولكن دمامل المصريين لم تكن مهلكة ... ".
قال عبد الرحمن: قد تقدم قول عكرمة، ومن وافقه في شأن الجدري، وقول ابن عباس في الحكّة، ولم أجد ذلك عن سعيد بن جبير. ثم لا يلزم من تشابه الآيتين من وجه أو وجهين تشابههما من جميع الوجوه. فكما اختلفت الآيتان في أن الذي نثره موسى رماد، والذي جعله الله تعالى على
(١) الأغاني (١٥/ ٧٢). [المؤلف]. ط الثقافة ١٦/ ٢٥٩.