وحسبك أنّ من المقرر عند أهل العلم أنه إذا نُقِل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قولٌ بالحلّ عُدّ ذاك الشيء مُجْمَعًا على حُرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حِلّه، فإن ذهب إلى حلّه غافلًا عن الإجماع كان قوله مردودًا، أو عالمًا بالإجماع فمِنْ أهل العلم من يضلِّله، ومنهم من قد يكفِّره.
لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قولٌ بحلِّ ذلك الشيء= كانت المسألة خلافية، لا يُحْظَر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذاك الصحابي، أو بقولٍ مفصّل يوافق هذا في شيء وذاك في شيء.
ولا يحرم على المقلِّد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل، إما على سبيل الترجيح والاختيار ــ إن كان أهلًا ــ وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه.
وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقّف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكلّ منهم، والاعتدادُ بتوثيق الموثِّق يتوقف على العلم بثقته في نفسه وأهليته، ثم على صحة سَنَد التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثِّقه ثقةٌ عارف، وصحّة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والفقه لرجاله، وهلمّ جرًّا.
والسعيُ في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق، أو في الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه.
فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعًا للأمرين، كان الأمر أشدّ جدًّا، كما يعلمه المتدبِّر.