للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتَّقون النظر فيما لم يجدوا فيه نصًّا، وكان منهم من يتوسّع في ذلك. ثم نشأ من أهل العلم ولاسيَّما بالكوفة من توسَّع في ذلك، وتوسّع في النظر في القضايا التي لم تقع، وأخذوا يبحثون في ذلك، ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك. واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك، ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان، والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم والإمعان في ذلك؛ ليعرف الصحيح من السقيم، والصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص، والمطلق والمبين وغير ذلك. فوقعوا فيما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يَعُوها، وتفلّتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم". راجع "إعلام الموقعين" طبعة مطبعة النيل بمصر (ج ١ ص ٦٢) (١)، وراجع "كتاب العلم" (٢) لابن عبد البر.

فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا مسائلُ ثبتت فيها السنةُ مخالفةً لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم ارتابوا فيه؛ لمخالفته ما ذهب إليه أسلافُهم واستمرَّ عليه عملُهم، ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس). فمِن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قَهَرهم، فلم يجدوا بدًّا من الأخذ به. وكثير منها كانوا يردُّونها، ويتلمَّسون المعاذير، مع أن منها ما هو أثبت وأظهر


(١) (٢/ ١٠٢ - دار ابن الجوزي).
(٢) (٢/ ١٠٤٢).