للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قيل: لو اعتبرنا العلل المذكورة واعتبرنا القياس لزم شمولُ المنع لكل ماء جارٍ، فيلزم اطِّراحُ المفهوم رأسًا.

قلت: بل تبقى مياه السيول ونحوها التي تمرُّ بنفسها على مواضع النجاسة، فلا يبقى وجهٌ لمنع الإنسان عن البول فيها؛ على أن الذين يعتدّون بمفهوم المخالفة يشترطون ما لعلَّنا لو دقَّقنا للاحَ لنا أنه غير متحقِّق هنا. وفي القرآن عدة آيات لا يأخذون فيها بمفهوم المخالفة، ويعتلّون بوجوهٍ إذا تدبرتَ وجدتَ بعضها واردًا هنا.

وأما حديث أبي هريرة، فإن كان قوله: "ثم يغتسلُ منه" على معنى الخبر ــ كما قرّره القرطبي، قال (١): كحديث: "لا يضرِبْ أحدكم امرأته ثم يضاجعُها" (٢) ــ فالكلام فيه كما مرَّ، إلّا أنَّه زاد بقوله: "ثم يغتسل منه" التنبيهَ على بعض العلل. كأنه قال: كيف يبول فيه، ثم لعله يحتاج إليه فيغتسل منه، فيتنجَّس أو يتقذَّر؛ أو يدع الاغتسال مع حاجته إليه؟ وإذا كان هو يستقذره لبوله فيه، فغيرُه أولى بالاستقذار. والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ولا يدفع هذا أن تكون هناك علة أخرى، فإنّ النهي عامٌّ، وقد جاء مثله بدون هذا التنبيه، وهو حديث جابر.

وإن كان المعنى على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال، انصبَّ النهيُ على الاغتسال بعد البول، كأنه قيل: لا يغتسل في ماء دائم قد بال فيه.


(١) في "المفهم" (١/ ٥٤٢).
(٢) ذكره الحافظ في "الفتح" (١/ ٣٤٧) نقلًا عن القرطبي. ولفظ الحديث كما عند البخاري (٤٩٤٢) ومسلم (٢٨٥٥) من حديث عبد الله بن زمعة: "يَعمِد أحدكم يَجْلد امرأته جَلْدَ العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه".