التواتر إلى الإجماع. فإن الإجماع هو الذي يسوغ أن [٢/ ٢٨] يقال: لا تسمع دعواه في موضع الخلاف المتوارَث لمنافاة الخلاف للإجماع. فأما التواتر، فلا منافاة بينه وبين الخلاف المتوارَث، كما ستراه. بل إنَّ الخلاف المتوارَث إذا لم يثبت أنَّ ابتداءه كان عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فورًا لم يمنع من دعوى إجماع سابق. فلنا أن ندَّعي في قضيتنا هذه إجماع الصحابة، لأن جماعة منهم رووا الرفع، وتواتر العملُ به عن كثير منهم، كما اعترف به الكوثري. بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقًا، فاشتهر ذلك وانتشر، ولا يُعرَف عن أحد منهم ما يدل على أنه غير مشروع.
فأما ما روي عن بعضهم أنه تركه، فلم يثبت. وقد مرَّ الكلام على ما روي عن ابن مسعود، ويأتي الكلام على غيره. ولو ثبت بعض ذلك فإنما هو ترك جزئي، أي في ركعة واحدة أو صلاة واحدة. وذلك لا يدل على أن التارك يراه غير مشروع، إذ قد يكون قصَدَ بيانَ أن الرفع في غير الأولى ليس في مرتبتها، وقد يكون سها، وقد يكون ترخَّص لعذر أو لغير عذر في ترك ما يعلمه مندوبًا.
بل لو ثبت أن بعضهم تركه مدة طويلة لما دل ذلك على أنه يراه غير مشروع، فقد جاء عن أبي بكر وعمر وابن عباس أنهم كانوا لا يُضَحُّون (١). بل قد ثبت أن الصحابة تركوا في عهد عثمان تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها، واستمرَّ ذلك حتى إن عليًّا لما قدم العراق وصلَّى بهم وأتى
(١) انظر "مصنف عبد الرزاق" (٤/ ٣٨١) و"السنن الكبرى" للبيهقي (٩/ ٢٦٥).