للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجمِّ الغفير أني رسول هذا الملك إليكم، ثم قال للملك: إن كنتُ صادقًا فخالِفْ عادتك، وقم من الموضع المعتاد لك من السرير، واقعد بمكان لا تعتاده، ففعل= كان ذلك بمنزلة التصديق بصريح مقاله، ولم يشكَّ أحد في صدقه بقرينة الحال، وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد، بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية، ونذكر هذا للتفهيم".

أقول: الذين شاهدوا المعجزات لم يوقنوا جميعًا، بل بقي كثيرون منهم مرتابين. وفي القرآن نصوص كثيرة تصرِّح بذلك، وهذا يدفع أن يكون الله عز وجل أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقب المعجزة.

فإن قيل: الذين بَقُوا مرتابين إنما ارتابوا لعدم علمهم بأن ذلك فعل الله عز وجل، بل جوَّزوا السحر.

قلت: فإذا لم يقع العلم بالصدق إلا لمن علم أن ذلك فعلُ الله عز وجل، فهذا نظير المثال الذي ذكروه. فلو فرضنا فيه أن ذلك الجم الغفير كانوا يعتقدون أن الملك لا يبالي أصدق أم كذب، ولا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمة أم ما تأباه= لم يحصل لهم بقيامه وقعوده أدنى ظن، فضلًا عن الظن الغالب، فضلًا عن العلم. فأما إذا كانوا يعتقدون أنه لا يفعل شيئًا لأجل شيء، فالأمر أشدُّ. فثبت أن الذين يعلمون أن المعجزة من فعل الله عز وجل إنما يصدِّقون لاعتقادهم أن الله تعالى منزَّه عن أن يقع منه كذب أو فعل مناقض للحكمة، وهذا الاعتقاد هو مقتضى الفطر الزكية والعقول النقية، وهو اعتقاد كلِّ من يؤمن حق الإيمان بوجود الله تعالى وكمال علمه وقدرته حتى من الأشاعرة أنفسهم، يعتقدون ذلك بمقتضى فطرهم، وإن أنكروه بألسنتهم.

* * * *