للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب الأول بيان وهن تلك الأقيسة. ولا يلزم من تقديم النص عليها حكمٌ على العقل الذي هو من المأخذ السلفي الأول بأنه لا يوثق به، وإنما يلزم الحكم بذلك على ذاك القياس وما كان مِنْ قبيله. والشرعُ لم يثبت بشيء من ذلك، كيف وقد ثبت الإسلام في العرب، ولا أثر فيهم للتعمُّق البتة، وكذلك بقية الشرائع. وإنما ثبت الشرعُ بما تقدَّم في المطلب الأول، والعقل هناك هو العقل الفطري الذي أعدَّه الله عز وجل لإدراك بيناته في الدين.

[٢/ ٣١٦] هذا، وقد تقدَّم في الباب الأول بيانُ حال النظر المتعمَّق فيه، وأنه قد يتعارض عند أصحابه قياسان كلٌّ منهما بحيث لو انفرد لكان قاطعًا عندهم. وقد يحصل لبعضهم قياس يعتقد أنه قاطع يقيني، ثم بعد مدة يتبين له أنه مختلّ. وكثيرًا ما يتمسك أحد الفريقين المختلفين منهم كالأشعرية والمعتزلة بقياس، ويرى أنه قطعي يقيني، ويتمسك الفريق الآخر بقياس آخر مناقض لذاك ويرى أنه قطعي يقيني، ويَثبُت كل الفريقين على رأيه في قياسه، ويحاول القدح في قياس مخالفه، ويستمرُّ هذا إلى مئات السنين. وهم يعرفون هذا، ويعترفون به، ومع ذلك لا يرونه موجبًا عدمَ الثقة بالعقل مطلقًا ولا بما كان من جنس تلك الأقيسة، فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يزعموا أن خبر الله عز وجل ــ مع العلم بأنه سبحانه لا يجهل ولا يخطئ ولا يكذب ــ إذا قُدِّم على قياس من تلك الأقيسة كان ذلك قدحًا في العقل مطلقًا؟ بل الحق أن تقديم القياس على النص هو الأولى بأن يكون قدحًا في العقل، بل هو ردٌّ للعقل الصريح بشبهة واهية. فقد ثبت الشرعُ بالعقل الصريح، وثبت صدقُ الشارع وإبانته بالعقل الصريح. وكثير من المعاني التي دلت عليها النصوص وهم ينكرونها ثابتة بالفِطَر والبدائه، وهي رأس العقل الصريح، وقد أُثبتت مع ذلك بأقيسة من جنس أقيستهم.