فإن قيل: لم يكونوا ماهرين في المعقول، فكان عليهم أن يشكُّوا في جزم عقولهم.
قلت: فعلى هذا لم يكن يلزمهم الإيمان البتة، بل على هذا لا يلزم أحدًا الإيمان؛ لأنه [٢/ ٣٢٢] مهما بلغ من المهارة فلا بد أن يكون فوق درجته ما هو أعلى منها. وأي باطل أبطلُ من هذا؟ وإنما الحق أن هناك قضايا فطرية يستوي في إدراكها العاقل والأعقل، وهناك قضايا يقع التفاوت فيها، ولكن يتفق أن يكون الرجل فيها أفضلَ من كثيرين كلُّهم أعقلُ منه، إما لأنه يُسِّر له من المشاهدة والتجربة والملاحظة والوجدان ما لم يُيَسَّر لهم، وإما لأنه عرضت لهم عوائق من الهوى والشبهات والاستكبار لم تعرض له.
فإن قيل: أما القضايا التي يثبت بها الشرع فكانت عند المخاطبين الأولين، بل هي عند جميع المكلفين ــ إذا لم يعاندوا أو يقصِّروا ــ بغاية الوضوح، فلم يكن عليهم أن يشكُّوا في جزم عقولهم بها. ولكنا ندعي أن القضايا التي توافق ظواهر النصوص التي ندعي بطلانها، لم تكن عندهم بغاية الوضوح، فكان عليهم أن يشكُّوا في جزم عقولهم بها فقط.
قلت: هذه دعوى باطلة، فإن من تدبَّرَ وجَدَ أن من القضايا التي تدَّعون بطلانها ما من شأنه أن يكون أوضح عندهم من بعض القضايا التي يتوقف ثبوتُ الشرع على ثبوتها، ومنها ما يكون مثلها، ومنها ما قد يكون دونها. ولكن كيف ترون عليهم أن يميِّزوا هذا التمييز الدقيق مع قولكم: إنهم لم يكونوا ماهرين؟ وهَبْ أنه كان يمكنهم ذلك، أفلم يوجب الله عز وجل عليهم اتباع الشرع ويخبرهم بأنه:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: ٤٢]؟