للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم إن صحَّتْ تلك الكلمات أو بعضها فقوله: «كان أصحابنا» يريد بهم أشياخه من الكوفيين، وإليهم يرجع الضمير في قوله: «كانوا». وحقُّ هذه الكلمات ــ إن صحَّت عن إبراهيم ــ أن تُنتقد عليه لا على أبي هريرة. وقد تقدم بيان حال أبي هريرة عند الصحابة وثناؤهم عليه وسماعهم منه وروايتهم عنه، ويأتي لذلك مزيد، وبان سقوط كلّ ما خالف ذلك من مزاعم أهل البدع، وظهرت حجةُ أبي هريرة فيما انتقده بعضهم عليه.

ثمَّ إن التابعين من أهل الحجاز وعلمائه وهم أبناء علماء الصحابة وتلاميذهم والذين حضروا مناظرتهم لأبي هريرة وعَرفوا حقيقة رأيهم فيه= أطبقوا هم وعلماء البصرة والشام وسائر الأقطارـ سوى ما حُكِي عن بعض الكوفيين ــ على الوثوق التامّ بأبي هريرة وحديثه.

وقد كان بين الكوفيين والحجازيين تباعُد، والكوفيون نشأوا على الأحاديث التي عرفوها من رواية الصحابة الذين كانوا عندهم، ثم حاولوا تكميل فقههم بالرأي وجَرَوا على مقتضاه، ثم كانوا إذا جاءهم بعد ذلك حديث بخلاف ما قد جروا عليه وأَلِفُوه تلكَّأوا في قبوله وضربوا له الأمثال. وإذ كان أبو هريرة مكثرًا كانت الأحاديث التي جاءتهم عنه بخلاف رأيهم أكثر من غيره، فلهذا ثَقُل على بعضهم بعضُ حديثه، وساعد على ذلك ما بلغهم من أنَ بعضَ الصحابة قد انتقد بعض أحاديث أبي هريرة. وقد كان أهل الحجاز أيضًا ينفرون عن الأحاديث التي تأتيهم عن أهل العراق، حتى اشتهر قولهم: نزِّلوا أهلَ العراق منزلةَ أهلِ الكتاب، لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم (١).

وعلى كلّ حال فقد انحصر مذهبُ أهل العراق في أصحاب أبي حنيفة،


(١) قاله مالك. انظر «جامع بيان العلم وفضله»: (٢/ ١١٠٨).