للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خُلِّفوا والعاجزين، ولم يبق إلا نفرٌ كانوا منافقين. وفي «الصحيح» (١) في حديث كعب بن مالك ــ وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا ــ: «فكنت إذا خرجتُ في الناس بعدَ خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفتُ فيهم أحزنني أني لا أرى [ص ١٩٤] إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عَذَر اللهُ من الضعفاء». وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك، ثم تأكَّد ذلك بتخلُّفهم لغير عذر وعدم توبتهم، ثم نزلت سورة براءة فقَشْقَشَتْهم، وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم قبل وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأما قول الله عزوجل: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: ١٠١] فالمراد ــ والله أعلم ــ بالعلم ظاهره أي اليقين، وذلك لا ينفي كونهم مغموصين أي مُتَّهمين، غاية الأمر أنه يحتمل أن يكون في المتَّهمين مَنْ لم يكن منافقًا في نفس الأمر، وقد قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: ٣٠] ونصَّ في سورة براءة وغيرها على جماعةٍ منهم بأوصافهم، وعيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً منهم، فمن المحتمل أن الله عز وجل بعد أن قال: {لَا تَعْلَمُهُمْ} أعْلَمَه بهم (٢) كلّهم.

وعلى كلِّ حال فلم يمت النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد عرفَ أصحابُه المنافقين يقينًا أو ظنًّا أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق. ومما يدل على ذلك، وعلى قِلَّتهم وذلّتهم وانقماعهم ونُفْرة الناس عنهم: أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حراك. ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يعلم أن ذلك يُعرِّضه لزيادة التهمة ويَجُرُّ


(١) البخاري (٤٤١٨).
(٢) في (ط): «به»، ولعلَّ الصواب ما أثبت.