وأما قوله تبارك وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: ٥٩ - ٦٠]، فلا يخفى أن قوله {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} هو في قومٍ جمعوا بين الكذب والتكذيب بالآيات استكبارًا كما يُبيِّنُه أوَّلُ الآية وآخرُها.
وأما الحكم الثاني فهو أنه لا أظلم ممن كذَّب بالحقِّ لما جاءه، فالتكذيب هو نسبة الخبر إلى الكذب بأن يقول: هذا كذبٌ، وفي معناه أن يُعْرِضَ عنه ويستمرَّ على خلافه كما نَبَّهَتْ عليه آية الجُرُز. والحقُّ والصدق المراد به ــ والله أعلم ــ ما هو حقٌّ وصدقٌ في دين الله في نفس الأمر وإن لم تقم الحجَّة بأنه حقٌّ؛ فإن الآيتين لم تُفَصِّلا ولكن التكذيب مُقَيَّدٌ بوقوعه وقت مجيء الحق بقوله في الأولى:{لَمَّا جَاءَهُ} وفي الثانية: {إِذْ جَاءَهُ}. والمعنى أنه لم يَكَدْ يسمع الحقَّ حتى بادر إلى تكذيبه بدون نظرٍ ولا تفكُّرٍ ولا تأمُّلٍ ولا تدبُّرٍ، فهو كالحاكم الذي يجيئه المتظلِّمُ فلا يكاد يَعْرِفُ أنه متظلِّمٌ حتى يُكَذِّبَه بدون نظرٍ في شكواه، وهذا من أشدِّ الظلم في الناس؛ لأنه [ز ٤٩] ظَلَمَه بعدم إنصافه وبعدم سماع شكواه وبتكذيبه، فمَنْ فعل مثل هذا بالحق الجائي عن الربِّ عزَّ وجلَّ فذاك الذي لا أظلم منه. وأما مَنْ كذَّبَ بالحق في دين الله وقد قامت به الحجة فهو المعبَّرُ عنه بالتكذيب بآيات الله، وهي حججه الظاهرة كما يقال لأعلام الطريق الظاهرة: آيات. وهذا أيضًا لا أظلم منه، فإن الآيات التي عبَّرت بالتكذيب بآيات الله لم تُقَيِّد التكذيب بكونه وقت المجيء، بل تقدَّم في آية الجُرز:{ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}. وهذا إن كان المكذِّبُ بالحق أظلم منه من جهة أنه كذَّبه ولم ينظر فهذا أظلم من جهة