للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحكمته مع إثبات علمه السابق سبحانه وتعالى. ومن الفلاسفة مَن يجحد علم الله تعالى بالجزئيَّات، زاعمين أَنهم بذلك ينزِّهونه عزَّ وجلَّ عن التغيُّر. وقد توسَّط أبو البركات البغدادي (١) في كتاب المعتبر فاعترف بعلم الله عزَّ وجلَّ لبعض الجزئيَّات ونفاه عن الاتفاقيَّات، زاعمًا أن العقل ينفي أن يسع علم الله تعالى جميع الجزئيَّات مع كثرتها، وأن الثواب والعقاب الذي جاءت به الشرائع لا يسوِّغه العدل والحكمة إلا إذا كان الله عزَّ وجلَّ لا يعلم الأعمال قبل وقوعها، وحاول أن يلطِّف العبارة جهده (٢).

وبعض المجوس قالوا بوجود قديم غير الله عزَّ وجلَّ هو خالق الشرِّ، أدَّاهم إلى ذلك تنزيه الله عزَّ وجلَّ عن الشرِّ، زعموا أنه لا يمكن تنزيهه عنه إلا بذلك القول، ومع ذلك فهم يبغضون خالق الشرِّ ويوجبون مخالفته ويقولون: إن مصيره مع مَن تبعه إلى جهنَّم، وأكثرهم يقول: إن خالق الشر وهو الشيطان مخلوق من خلق الله تعالى، ثم يتحيرون كيف يمكن أن يخلقه الله تعالى مع علمه بخبثه، حتى التزم بعضهم أنه قديم كما سبق.

وهكذا جميع أمم المشركين وطوائف المبتدعين يزعمون أنهم بشركهم أو بدعهم معظِّمون لله عزَّ وجلَّ، حتى فرعون وقومه كما سيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى. ولعل أكثرهم كالصادقين في قصدهم، وإنما أُتُوا من قبل اعتمادهم على عقولهم وقياسهم وإعراضهم عن كتب الله ورسله فلم يقنعوا


(١) هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، أبو البركات البغدادي، العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان، كان يهوديًّا ثم أسلم، من تصانيفه: المعتبر في الحكمة (أي المنطق والفلسفة)، توفي عام نيِّفٍ وخمسين وخمسمائة. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطباء ٣٧٤ - ٣٧٦، وسير أعلام النبلاء ٢٠/ ٤١٩.
(٢) انظر: المعتبر ٣/ ٩٣ - ٩٩، ١٨٧ - ١٩٥.