أوضحت ذلك رواية الدارقطني السابقة. فلما كانت المنازعة حصلت بسبب القراءة التي سألهم عنها بقوله:«إني أراكم تقرؤون»، وهذه القراءة شاملة للفاتحة كما مرَّ، فقد يؤخذ منه أنَّ المنازعة كانت تحصل بسبب قراءة الفاتحة، وإنما استثناها من النهي لأنها كانت واجبة، وأداء الواجب مقدَّمٌ على ترك المنازعة. وقد نصَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذه العلَّة بقوله:«فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها».
هذا أقصى ما يحتجُّ به لحصول المنازعة بقراءة الفاتحة، وفيه بعد ذلك نظر يظهر بالتأمل.
ولكننا نقول: هَب المنازعة كانت تحصل بقراءة الفاتحة؛ فإننا قد أثبتنا فيما تقدَّم أن السؤال في حديث ابن أكيمة إنما وقع عن قراءة غير الفاتحة. فإن ثبت أنه نهى فالنهي متوجِّهٌ إلى ذلك.
وإذا نهى عن قراءة غير الفاتحة معلِّلًا بالمنازعة لم يكن لهم ولا لنا أن نقيس الفاتحة على غيرها بجامع المنازعة؛ لتقدُّم حديث عبادة بالنصِّ على أنَّ المنازعة إنما تمنع القراءة بغير الفاتحة. فأما الفاتحة فلا؛ لأنه لا قراءة لمن لم يقرأ بها؛ فأداؤها لا بد منه. وإن لزم منه المنازعة. فهذا نصٌّ مبطلٌ للقياس، مبيِّنٌ للفرق الواضح.
بل لو لم يتقدَّم حديث عبادة لكفى في منع القياس ما علموه من فرضية الفاتحة دون غيرها، فهذا كافٍ لمنع القياس؛ لأنَّ منعه لهم من القراءة المندوبة لمفسدة المنازعة لا يلزم منه منعُه لهم من القراءة الواجبة؛ للفرق المعلوم بين الفرض والنفل، وهذا واضحٌ جدًّا، والله أعلم.