فظهر لي أن الحكمة كانت تقتضي وجوبَ الحج على كل مسلمٍ كلَّ سنة، وأيَّد ذلك إيجاب الاجتماع على أهل المحلة في الجماعة كل يوم خمس مرات، وعلى أهل البلدة في الجمعة، فكان يناسب ذلك إيجابَ اجتماع جميع المسلمين ولو مرةً في السنة وذلك الحج، ولكن عارضَ ذلك ما فيه من المشقَّة وضياع كثير من المصالح، فخفَّف الله عزَّ وجلَّ عنهم وجعل الفرض على كلٍّ منهم مرةً في العمر، لأنه يحصل بذلك اجتماعُ جمعٍ كبير مشتمل على جماعةٍ من كلِّ جهة. واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يمنع غيرَ الحجاج مما كانوا يستحقون الترخيصَ فيه ــ لو وجبَ عليهم الحجُّ فحجُّوا ــ من الزينة واللهو.
ويظهر من قضية السواك والحج أنه لِتعارُضِ الحكمة في اقتضاء الوجوب وعدمه جعل الله تبارك وتعالى الخِيرَةَ لرسولِه: إن شاء اختار الوجوب فيكون ذلك واجبًا بإيجاب الله تعالى، وإن شاء خفَّف. فاختار - صلى الله عليه وآله وسلم - التخفيف، ولذلك علَّق - صلى الله عليه وآله وسلم - الوجوبَ فيهما على مجرد أمره وقوله، فتدبَّرْ. وتمام هذا في مقالة العيد.
وقد يظهر من هذا أن أجر حجّ التطوع مثل أجر حج الفريضة، ولا حَجْرَ على فضل الله عزَّ وجلَّ. ويدلُّ عليه إطلاق الأحاديث في فضل الحج، بخلاف الصلاة والصيام، فإن فيها أحاديث في فضل الفرض وأحاديث في فضل النفل، والله أعلم.