والناس في هذه الدار مغمورون بالحسِّيات والعاديَّات، حتى إنَّ الإنسان يجد بحسب الظاهر أن سؤاله إنسانًا مثله أقربُ إلى حصول غرضه من الاقتصار على سؤال الله عزَّ وجلَّ، وتوجيهُ ذلك معروفٌ في العقل والدين، ولكن الإنسان يصعب عليه أن يقتصر في أعماله على مقتضى العقل والدين لغلبة الحسّ والعادة عليه.
هذا مع أن كثيرًا من الأحكام الشرعية أو أكثرها كالمبنيِّ على هذه الأمور العادية، ألا ترى أنه ليس للإنسان أن يتناول السُّمَّ أو يمتنع من الطعام والشراب أو يمتنع من العمل بطاعة الله تعالى والكفِّ عن معاصيه قائلًا: ما سبق في علم الله فهو كائن لا محالة ففيم العناء؟
فأما حال الملائكة فإنه مخالف لحال البشر؛ فليس هناك حسٌّ ولا عادة يوهم بظاهره أن الالتجاء إلى الملائكة أقربُ في حصول المقصود من الالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ، بل الأمر بالعكس، كما يدلُّ عليه حالُ المشركين حيث كانوا عند الشدائد يدعون الله عزَّ وجلَّ وحده، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
وبهذا التقرير يُعْلَمُ أن الجنَّ وأرواح الموتى كالملائكة, ولا سيما إذا ثبت أن دعاء الجن وأرواح الموتى عبادة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. هذا مع أن ما أشرنا إليه من عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض ليس معناه أن ذلك مباح لهم مطلقًا، بل فيه تفصيلٌ سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
واعلم أن البرهان المتقدِّم ــ أي: لو كان مع الله تعالى أحياء إلخ ــ هو برهان التمانع المشهور بين المتكلمين، ولهم في تقريره خبط طويل، والذي