للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حجج الحق في أقصى غاية الوضوح؛ لأنه يفوت بذلك الابتلاء والاختبار، وبفواته يفوت مقصود الخلق والتكليف، كما أوضحته في موضع آخر.

مع أن الناس قد شككوا في الحسيات، وفي العقليات الأولية، كما حكي عن السوفسطائية.

ثم يصير هذا الرجل: إن رجع إلى الحجج وتدبرها رجع له يقينه، فإن رجع إلى الشبهة وتابعها فقد يرجع له ارتيابه، وهكذا، فيكون ــ كما في الحديث (١) ــ مِثلَ المنافق كالشاة [العائرة] بين الغنمين، تارةً إلى هذه وتارةً إلى هذه.

وقد تكون الشبهة واهية ولكن يقوِّيها الهوى، فيمنع صاحبها عن فحصها، كما يمنعه عن تدبر ما يقابلها. وأكثر ما يتفق هذا إذا كان عند الإنسان يقين، وله هوى في رأي لا يستحضر أنه مخالف لذلك اليقين، فيقوم من ينازعه في ذلك الهوى، ويحتج عليه بذلك اليقين.

فمن هذا أن مشركي قريش كانوا يعلمون بفطرهم، وبما وصل إليهم من شرع إبراهيم عليه السلام، وما بلغهم عن غيره من الأنبياء المتقدمين: أن الإنسان مخيَّر في أفعاله، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وأن الناس كثيرًا ما يعصون أمر الله عز وجل ويرتكبون مناهيه، وأنه يبعث إليهم الأنبياء فيدعونهم، فإن عصَوهم وأصرُّوا عُذِّبوا.

[ص ٦١] هذا كان متيقنًا عندهم، لا يخالجهم فيه شك، وكانوا يعلمون أن أصحاب الفيل عَصَوا الله عز وجل بقصدهم هدم بيته، فعذبهم، وكانوا


(١) الذي أخرجه مسلم (٢٧٨٤) من حديث عبد الله بن عمر.